الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
بلجراد الإسلامية أندلس جديدة صنعتها الأندلس القديمة، نعرض في سطور حول تاريخ وحضارة بلغراد في ظل الحكم الإسلامي العثماني، منذ الفتح وحتى السقوط.
قد يدهش الكثيرون حينما يعرفون أنَّ بلجراد كانت مدينة إسلامية .. وأنها اليوم أصبحت نصرانية، فبعد أن كانت أندلس البلقان من حيث العمران وحركة العلم ورفع راية الجهاد .. تحوَّلت بعد سقوطها بسنوات إلى محاربة المسلمين الذين حوَّلوها إلى إحدى أعظم مدن أوربَّا حضارة .. وقت أن كانت مدن أوربَّا بلا مرافق ولا شوارع ولا أحياء منظَّمة، تلك هي إِذَنْ قمَّة المأساة أن تصنع أندلسٌ قديمة فقدناها منذ سنوات ليست بعيدة أندلسًا جديدة على خريطة عالمنا المعاصر، وحول هذه المدينة قدَّم الدكتور محمد موفاكو دراسة عن بلجراد الإسلامية لِيَسُدَّ بها ثغرة كبيرة.
موقع بلجراد وخصائصه
امتاز موقع بلجراد كما يذكر الدكتور محمد موفاكو بأهمية كبيرة باعتباره بوابة البلقان التي تتحكم بعقدة مواصلات حيوية للغرب في اتجاه البلقان والشرق، وللشرق في اتجاه الغرب.
وقد أدَّت أهمية هذا الموقع إلى تنازع القوى الكبرى الدول الناشئة الطموحة للسيطرة عليه، سواءٌ في عهد الإمبراطورية الرومانية، أم في زمن الإمبراطورية البيزنطية. ونتيجة لهذا التنازع المتواصل، وما أدَّى إليه من انتقال هذا الموقع من قوة إلى أخرى، ورغبة كل قوة في تثبيت وجودها بنفي الأخرى- انعدم الاستقرار الضروري لتطوُّر ما بُنِي على هذا الموقع وازدهاره كمدينةٍ بالمعنى الشامل للكلمة.
وقد برزت أهمية الموقع الذي تقوم عليه بلجراد في القرن (الخامس عشر= التاسع الهجري) في ذروة الحرب بين الدولة العثمانية والمجر التي كانت قد أنعشت من جديد الروح الصليبية في أوربَّا وتطوَّرت إلى حربٍ بين الإسلام والمسيحية، ولكن على الأرض الأوربِّيَّة هذه المرَّة، فخلال هذا القرن كانت بلجراد القلعة الحدودية للمجر، وقد تحوَّلت إلى "حصن المسيحية"، وأصبحت رمزًا يعني الكثير لكلِّ أوربَّا في صموده أو في سقوطه.
فتح بلجراد كان في رمضان
اتَّضحت الأهميَّة الفائقة لموقع بلجراد بعد سقوطها في يد العثمانيين؛ إذ تحوَّل حصن المسيحية إلى دار الجهاد، ومنه تابع العثمانيُّون اختراقهم لأوربَّا حتى وصلوا إلى أسوار فيينا سنة (1529م=936هـ)، وخلال الحكم العثماني الطويل (1521-1867م= 927-1284ه)، وخاصَّةً في الفترة الأولى لحكمهم للمدينة (1521-1689م= 927-1100هـ) توفَّر الاستقرار لهذا الموقع وتحوَّلت بلجراد من قلعةٍ إلى واحدةٍ من أكبر المدن في أوربَّا الشرقية، وفي الواقع لقد نشأت خارج القلعة مدينةٌ جديدةٌ ازدهرت كنموذجٍ للمدينة الإسلامية، وشكَّلت نموذجًا حضاريًّا متقدِّمًا بالنسبة إلى الوسط الأوربِّي.
ومع هذا الازدهار -الذي صاحبه نموُّ المدن الأخرى في البلقان في ظلِّ الحكم العثماني- وبعد هذا الازدهار الذي أصبحت فيه بلجراد تُشَبَّه بدمشق؛ جاءت حرب الاسترداد لتقضي على بلجراد تدريجيًّا كرمزٍ للنموذج الحضاري الشرقي الإسلامي في أوربَّا.
وتبدو الآن بلجراد مدينة أوربِّيَّة حديثة لا تمتُّ بصلةٍ إلى تراثها الحضاري السابق. وهكذا أصبحت بلجراد أندلسًا أخرى. تصنع اليوم (في أواخر القرن العشرين) مأساة أندلسية جديدة في العالم الإسلامي، هي مأساة البوسنة والهرسك.
شواهد حضارية ببلجراد
يمكن القول: إنَّ بلجراد بما امتازت من منشآت حضارية تُقدِّم نموذجًا للمدينة الإسلامية، ومن هذه المنشآت الجوامع والمساجد التي بلغ عددها 217، وهو رقمٌ يدلُّ على هوية المدينة ومدى اتِّساعها في ذلك العصر، ومن المنشآت الفريدة التي انتشرت بهذه المدينة دور القرآن والمدارس التي وازت فيها الحركة التعليمية الحركة في إستانبول عاصمة الدولة.
وترتب على ازدهار عمارة المساجد انتشار شبكة الأقنية لتوفير المياه النظيفة، التي تصلح للوضوء في الجامع أو للاغتسال في الحمامات العامة أو البيتية، ومن هنا كان الاهتمام بالبحث عن مصادر للمياه في ضواحي المدينة وشق الأقنية الجوفية لإيصال المياه إلى الجوامع والحمامات والبيوت في بلجراد، الأمر الذي جعلها تمتاز عن بقية المدن الأوربِّيَّة بشبكة المياه العذبة آنذاك.
أبراج الساعات
إنَّ وجود الجامع في المدينة الإسلامية يفترض أن يعرف المسلم الوقت بدقة؛ ليتمكن من أداء الصلاة في وقتها المحدد، وقد اهتمَّ العثمانيون في بناء أبراج للساعات sat kula في المدن التي كانت تحت حكمهم، وهذه كانت عبارة عن أبراج ضخمة وجميلة وفي قمة كلِّ واحدٍ منها ساعةٌ كبيرة تُعلِن عن الوقت بدقَّاتٍ تُسمع عبر المدينة وضواحيها.
وفيما يتعلق ببلجراد فقد بُنِي أول برج من هذا النوع سنة (1537م=944هـ)، وخلال زياراته لبلجراد يُحدِّثنا أوليا شلبي عن برج الساعة الذي كان قائمًا في القسم المرتفع من القلعة، ويذكر أنَّ صوت دقَّات الساعة من هذا البرج كانت تُسمع من على بعد مسيرة يوم.
أخيرًا
ما أشد حاجتنا إلى البحث بعناية ودقَّة في مثل هذه الصفحات المجهولة من تاريخنا وحضارتنا، حتى نكون على وعيٍ بتراثنا، ونُسهم إسهامًا حقيقيًّا في إعادة صياغة أمَّتنا صياغةً إسلاميَّة.
____________
انظر كتاب: محمد موفاكو: بلغراد الإسلامية، الناشر: مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع – الكويت، الطبعة: الأولى، (1407هـ= 1987م).
التعليقات
إرسال تعليقك